مدونة المكتبة
04Apr

عن دلشاد وسيرة الجوع والشبع في مسقط

04 Apr, 2021 | Return|

يمكنك أن تقرأ عن الجوع والأسى في كتب التاريخ لكنك لن تشعر به، وحده الأدب قادر على نقل التجربة الإنسانية إلى العيش والإحساس وتقديمها كحالة معرفية منفتحة وحاضرة على الدوام.

تقدم لنا بشرى خلفان روايتها دلشاد في توازٍ مكاني وزماني، بين لوغان وولجات والشجيعية وحارة الشمال، بين بومبي ومسقط، عبر أحلام ورغبات وأفواه مفتوحة أكثر من أي شيء آخر.
 
بين أعوام تحكي قصة الجوع والبأس في زمن سيطر عليه الفقر والمرض في مسقط خلال حكم فيصل بن تركي ثم تيمور ثم سعيد في القرن الماضي.
 
رواية تاريخية اجتماعية مشبعة بالأحداث والمصائر المترابطة، تحكي عن البلوش والبحارنة والبانيان في مسقط، تحكي عن العمانيين والإنجليز والصراع على المصلحة والمال وكيف أضاعت السياسة والحروب كرامة الإنسان وأحلامه، في زمن لم يعاني من قسوة الجوع بل من قسوة الإنسان. تحكي بشرى عن دلشاد ثم عن مريم، تحكي عن الفقر والعوز، عن العبودية وامتهان الإنسان في صور مارس المجتمع فيها طبقيته وعنصريته عن المرأة والأدوار التي مارستها وما لها وما عليها والمفاهيم والمعتقدات التي قد تمنحها مساحتها أو تبخسها في جسدها وقلبها وفكرها، أنت هنا أمام لغة سردية رائعة لا يمكنك إلا أن تكون غارقًا وممتلئًا رغم وخز الجوع الذي ينهش قلبك أكثر من بطنك.
 
رواية ستجعلك تقترب أكثر في تفاصيل عذبة ورقيقة في وصف الملابس والبيوت والروائح والألوان، وصفًا يحكي عن مسقط المدينة المحاطة بالقلعتين والساحل والبر محاطة بالتجار والعبيد والسلطان والعساكر، محاطة بأغلال تجارة السلاح والحرب العالمية التي أرخت بظلالها على عيش الإنسان فطوقته الحرب كما طوقت الجبال مسقط. 
 
كل الشخوص مهمة ليس هناك من هو هامشي، كل له صوته ونظرته وحديثه ومكانه ومشاعره، ستقترب من المشهد عبر دلشاد ومريم وفريدة لكنك ستقترب من وجدان وأفكار ناصر بن صالح وخلف بن سويلم وما مويزي وما زليخة وبا سنجور وفردوس وعبداللطيف وقاسم وعيسى عبدالرسول وحتى بتول. كل هؤلاء بشرًا ولا يمكنك أمام تجليات الرواية أن تضعهم هامشيون. هكذا أرادت بشرى وهكذا يتلقف القارئ الشخوص ويتماهى في معانيهم وأحاسيسهم.
 
وتكمن الخصوصية والغنى في استدعاء الذاكرة التاريخية والوجدانية في هذه الرواية بأنها وباتساق مع اللغة السردية والحبكة والتقنيات المحكمة نقلت روح المكان واستنطقت القصص والأحداث التي مرت بها مسقط في مرحلة تاريخية شائكة تداخلت فيها الظروف العالمية مع الوضع المحلي وتداعيات الظروف السياسية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية عبر شرائح مختلفة وجذور متباينة، استطاعت بشرى أن تغوص كثيرًا في تفاصيل البيئة العمانية وعبق الحارات والبيوت عبر الطقوس والمفردات والمناسبات في امتزاج جميل نسجت من خلاله العمارة والملابس والأغاني قطعة فسيفساء دقيقة جدا في توصيف كل ما من شأنه أن يضفي للرواية بُعدًا حضاريًا اجتماعيًا في إطار واقعي ومألوف ومدهش، رغم أنني وجدت في بعض الأحيان الحاجة إلى هامش يترجم ويعرف المفردات والمكونات ليتمكن القارئ من التعرف عليها خاصة غير العماني والتماهي معها.
 
شكرًا بشرى على هذه التحفة الفنية والأدبية التي صعدت بمخيلتي من الورق إلى السينما أو الدراما بسرديتها مع شخصيات متخيلة لكنني وجدت فيهم التصور الإنساني الصادق بلحم ودم وقلب وبطن وروح تتوق إلى النور وهي من ظلمة إلى ظلمات تدفع جوعها وألمها بالضحك تارة والصمت تارةً أخرى.