د. وفاء بنت سعيد المعمريّة رئيسة قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي:
- الذكاء الاصطناعي يُساعد في الدراسات الاجتماعيّة لكن لا يمكنه تنفيذها كاملةً
- نركز على تلبية احتياجات التنمية وسوق العمل وخدمة المجتمع في دراساتنا وبحوثنا
- دراساتنا تُعدّ رافدًا معلوماتيًا لسياسات الصحة العامة وتُسهم في تحقيق الرفاه الاجتماعي
يُعدّ "الرفاه الاجتماعي" أولويّة تسعى إلى تحقيقها جميع الدول لبناء مجتمع متأصّل ومتمسك بمبادئ قيّمة ومواكب للتغيرات العالميّة، وضمن مرتكزات رؤية عُمان 2040 يأتي الرفاه الاجتماعي في مقدمة الأهداف، حيث يتطلب تحقيقه دراسات مجتمعيّة معمقة لخصائص المجتمع من كل الجوانب النفسية والاجتماعيّة، وليتحقق هدف هذه الرؤية الطموحة يبني قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي في جامعة السلطان قابوس خططًا ويقدم دراسات وبحوثًا تسعى إلى رفد المجتمع بمعارف وخبرات من باحثين وأخصائيين اجتماعيين متمكنين لمعالجة ودراسة قضايا المجتمع ووضع آليات لحلّها مؤسسيًا واجتماعيًا.
في هذا العدد تحاور "تواصل علمي" الدكتورة وفاء بنت سعيد المعمريّة، رئيسة قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، وتسلّط الضوء على توجهات القسم في رفد المكتبة العلميّة العُمانية بدراسات اجتماعية متخصصة، وكيف لها أن تسهم في تحقيق الرفاه الاجتماعي لرؤية عُمان 2040، وأبرز الأعمال التي ينفذها القسم.
في البداية، دكتورة حدثينا عن التطورات التي شهدتها دراسات علم الاجتماع في سلطنة عُمان، ومدى ارتباطها برؤية عمان 2040
بدأ علم الاجتماع بشكل محدد مع بداية التعليم الجامعي في سلطنة عُمان، وذلك بإنشاء جامعة السلطان قابوس كأول جامعة حكومية في عام 1986م؛ وذلك بهدف تلبية متطلبات النهضة العمانية المعاصرة، ومع تأسيس الجامعة، انطلق قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية ليكون مسهمًا فاعلًا في الدراسات المتخصصة في علم الاجتماع، مع التركيز على تلبية احتياجات التنمية وسوق العمل وخدمة المجتمع، حيث يسهم القسم في إعداد متخصصين أكفاء في مجالات البحث الاجتماعي والعمل والخدمة الاجتماعية؛ مما يعزز من رفد المجتمع العماني بالكفاءات اللازمة في مختلف الميادين المتصلة بالتخصص.
وتعد أهداف القسم منبثقة من الحاجة إلى البحوث الاجتماعية وإعداد أجيال من الباحثين الوطنيين الذين يتمتعون بالكفاءة والقدرة العلمية في التعامل مع الظواهر والمشكلات الاجتماعية ومعالجتها، ونشر ثقافة المشاركة والعمل التطوعي وتعزيز روح الانتماء الوطني، وتقديم البحوث والاستشارات لمختلف قطاعات ومؤسسات الدولة، ليصب كل ذلك في اتجاه توفير الخبرة العلمية الموضوعية حول المجتمع العماني وإتاحتها لأصحاب القرار؛ لتمكينهم من اتخاذ قرارات حول القضايا المطروحة من خلال معرفة علمية راسخة، وقد أسهم القسم بتخصصيه في رسم السياسات الاجتماعية التي تستهدف معالجة قضايا المجتمع العماني وتحدياته. كما شارك في الجهود الجبارة التي تبذلها السلطنة لرفعة المواطن العماني، تلك الجهود التي أثمرت عن تبوؤ سلطنة عمان لترتيب متقدم في دليل التنمية البشرية.
ويمكننا القول بأن قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي بجامعة السلطان قابوس، جاء مواكبًا للنهضة المتجددة ورؤية عُمان 2040، حيث بنى أهدافه بالتوازي مع مرتكزات الرؤية التي تتضمن الرفاه والحماية الاجتماعية. كما يعمل القسم باستمرار على تطوير خططه الدراسية، وطرح حلقات عمل ودورات تدريبية لرفع كفاءة الباحثين والأخصائيين الاجتماعيين، مع الالتزام بمعايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، والحصول على الاعتمادات الأكاديمية الدولية لبرامجه الدراسية على مستوى البكالوريوس والماجستير.
ولتحقيق الرفاه الاجتماعي الذي تسعى إليه رؤية عُمان 2040؛ يعزز القسم الدراسات الاجتماعية التي تبحث في الخصائص الاجتماعية وما يمكن أن تنميه من ابتكارات تقنية في مجالات الموارد البشرية؛ إذ تعد البحوث الاجتماعية أساسية لضمان شبكة أمان اجتماعي عادلة في المجتمع العُماني، وتطوير البرامج والخدمات الاجتماعية بما يتناسب مع احتياجات المجتمع. كما يسعى القسم إلى تعزيز الشراكة بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل إيجاد مجتمع مدني مشارك بفعالية في التنمية، ومحافظ على الهوية والتراث العُماني، بالإضافة إلى تطوير الكفاءات الوطنية.
ما أبرز أوجه التعاون بين الجامعة ومختلف مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الحكومية والخاصة في هذا المجال؟
هناك أشكال عديدة للتعاون بين جامعة السلطان قابوس ومختلف المؤسسات الحكومية والخاصة في سلطنة عُمان، حيث عملت الجامعة على تقديم خدمات الصحة النفسيّة للمجتمع والتوجيه الاجتماعي من خلال أقسام الطب السلوكي وصحة المجتمع بمستشفى جامعة السلطان قابوس (المدينة الطبية الجامعية حاليا)، ومنها ما قدمه المستشفى من خدمات مجتمعية، مقابل ازدياد حالات الاكتئاب الناجمة عن تقييد حركة التجوال في سلطنة عُمان؛ بسبب تفشي فيروس كوفيد-19، والذي تمثل في خدمة الخط الساخن على مدار الساعة لتقديم الاستشارات النفسيّة والاجتماعيّة للأفراد، كما عقدت اتفاقية مع منظمة اليونيسيف لتدريب أخصائيين اجتماعيين ومستشارين ومرشدين صحيين نفسيين في المدارس بهدف تقديم الدعم النفسي للأطفال.
بالإضافة إلى تنفيذ دورات تدريبية دوريّة بالتعاون مع مركز خدمة المجتمع والتعليم المستمر في الجامعة يُستهدف فيها الأخصائيون الاجتماعيون بالمؤسسات، والجانب الأهم هو المجال البحثي، حيث يدرس قسم علم الاجتماع الاتجاهات الاجتماعية والظواهر، ويقدم توصيات وحلولًا لمعالجتها للمؤسسات المعنية. زيادة على ذلك، يشارك القسم في المؤتمرات المحلية والدولية لعرض أبرز أوراقه البحثية.
في رأيك دكتورة، كيف يمكن للبحث العلمي في مجال علم الاجتماع أن يؤثر في سياسات الصحة العامة والبرامج التوعوية؟
يشكل البحث العلمي في مجال علم الاجتماع رافدًا معلوماتيًا لسياسات الصحة العامة وتنفيذ البرامج التوعويّة؛ حيث يقدّم نظرة شمولية عن المجتمع وقضاياه المختلفة ومشاكله واتجاهاته، ومن خلال البحث في مجال علم الاجتماع تُحَدَّد الاحتياجات الصحية للمجتمع من خلال دراسات ميدانية واستبانات وتحليل بيانات يمكن لها أن تكشف عن التحديات الصحية الرئيسية والأسباب الاجتماعية التي تسهم في ظهورها. كما يمكن له تحديد العوامل الاجتماعية المؤثرة على الصحة من خلال دراسة العوامل الاجتماعية مثل الفقر والتعليم والعملوالبيئة المعيشية والروابط العائلية وارتباطها بصحة الفرد النفسية، ومن خلال تحديد الباحثين للعوامل الاجتماعية وتأثيراتها، تقدم النتائج كتقرير موجه لمقرري السياسات بهدف تطوير برامج لمعالجة هذه العوامل.
كما أن الدراسات والبحوث الاجتماعية تسهم في قياس مدى فاعليّة السياسات المطبقة والشرائح التي تخدمها من خلال التحليل الاجتماعي، وذلك لتحديد الجوانب التي تحتاج إلى تحسين أو تغيير لتحقيق نتائج أفضل، فمثلًا في البيئة الصحيّة تقيس مدى تقبل الأفراد للأدوية والخطط العلاجيّة، وكيف يمكن تهيئتهم نفسيًا لتقبلها وتعزيز أفكارهم الإيجابية اتجاه العلاجات، وفي المجال المدرسي، فإنها تحدد العوامل السلبية لدى الطلبة من ذوي صعوبات التعلم والطلبة ممن لديهم خلفيات اجتماعية قاسية كمشاكل عائلية ومجهولي الأبوين، وتقوم ببناء خطط للتعامل معهم بخصوصيّة أوضاعهم الاجتماعية، وكذلك هو الحال في بيئة العمل وغيرها من البيئات.
ويمكن للبحث العلمي أيضًا معرفة أهم البرامج التوعوية التي يحتاجها الأفراد، سواء كانوا أفرادًا ضمن مجتمع أو ضمن أسرة أو ضمن جماعة أقران في المدرسة، أو في العمل، إذ إنه وبناءً على الوضع الاجتماعي للمبحوث، يتعرّف الباحث على أهم ما يحتاجه المبحوث في بيئته الاجتماعية وعليه يُوضَع البرامج عليها، أي إن البحث العلمي في علم الاجتماع يعدّ أداة مهمة تسهّل عمل واضعي القرار؛ إذ تجيبهم عن كثير من الأسئلة والتحديات التي قد تكون أعاقت سير اتخاذ القرارات اللازمة في الصحة العامة التي من شأنها المحافظة على المجتمع العماني كمجتمع سويّ ومتزن من النواحي الصحيّة والنفسية والاجتماعية.
من خلال هذه البحوث، كيف تقيّمين الاهتمام بالتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في مجال علم الاجتماع بسلطنة عُمان؟
هناك اهتمام كبير في إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي كونها عاملًا مهمًا في توفير أدوات وتقنيات تساعد الباحثين الاجتماعيين على فهم السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية بطرق جديدة ومبتكرة، حيث تعد العلوم الاجتماعية والإنسانية مجالات حاسمة في فهم تفاعل البشر مع المجتمع والثقافة، ومع تطور التقنية وظهور الذكاء الاصطناعي، شهدت هذه المجالات تحولًا رقميًا مهمًا يؤثر في طرق البحث والتحليل والتفاعل مع البيانات، ولا شك في أن الدمج بين التطور التقني والذكاء الاصطناعي مع علم الاجتماع سوف يؤدي إلى تأثيرات إيجابية كبيرة على الدارسين والعاملين والباحثين في علم الاجتماع؛ نظرًا لسرعة الحصول على المعلومات والبيانات من خلال المصادر الرقمية، فيمكّنهم ذلك من الوصول السريع إلى الدراسات السابقة وبيانات أرشيفية ضخمة للمجتمع. كما يمكن أن يسهم في زيادة تفاعلهم مع المحتوى الاجتماعي وتحفيز مشاركتهم في البحث والتحليل.
الجدير بالذكر أنه من خلال الذكاء الاصطناعي، تمكن الباحثون اليوم من تعزيز المكتبة البحثية العُمانية من خلال تحليل البيانات البحثية المتوفرة، والتي بنتها مؤسسات حكومية كوزارة التنمية الاجتماعية ووزارة الصحة ليتحصلوا على مادة بيانيّة ومؤشرات توضح الاتجاهات الاجتماعية، علاوة على ذلك يُمكن استخدام التحليل البياني والتنبؤات الاجتماعية عن طريق الذكاء الاصطناعي؛ مما يساعد الباحثين في الكشف عن أنماط واتجاهات اجتماعية جديدة ومهمة تسهم في تطوير إستراتيجيات أفضل للمستقبل.
ولا تتأطر الجهود بذلك فحسب، بل هناك جهود كبيرة تبذلها المؤسسات بالتعاون مع القسم مثل جهود وزارة التنمية الاجتماعية والمرصد الاجتماعي في قطاع البحث العلمي والابتكار بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وجمعية الاجتماعيين العمانية، ومركز البحوث الإنسانية بجامعة السلطان قابوس، حيث يتم في نطاق هذه المؤسسات إعداد أبحاث ودراسات ميدانية حول العديد من الظواهر الاجتماعية، والتي تنوعت وشملت حزمة عريضة من الموضوعات، مثل السكان، والتحضر، وشؤون العمل والعمال، وتنمية المجتمعات المحلية، والأسرة والزواج والطلاق، والطفولة والمراهقة والشباب والشيخوخة، وقضايا المرأة، والثقافة، والأمن الاجتماعي، والتربية والتعليم والتدريب والتأهيل، والرعاية الاجتماعية والتأمينات الاجتماعية، والصحة والمرض والإعاقة، والعمل التطوعي، والشورى والمشاركة الشعبية، والمشكلات والمخاطر الاجتماعية.
مع هذا التطور باستخدام التقنية، كيف ستكون التوجهات المستقبلية لمعالجة القضايا الاجتماعية؟
يؤدي التحليل المستمد من البيانات الرقميّة المتحصل عليها من وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التقنية بصورة عامة إلى رسم التوجهات المستقبلية لدراسات علم الاجتماع، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي تساعد إلى حد بعيد على التنبؤ بسلوكيات الأفراد والمجموعات والمجتمعات بناء على البيانات السابقة. كما تكشف عن الاتجاهات الاجتماعية، وتغيرات المجتمع بدقة كبيرة، وذلك باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية، والتي يمكن من خلالها دراسة العديد من القضايا الاجتماعية المعقدة مثل السلوك الانتخابي وتأثير وسائل التواصل الاجتماعية على التوجهات العامة، وتحليل التفاعلات الاجتماعية في بيئات العمل والمجتمعات المختلفة؛ مما يساعد تلك التطبيقات في توجيه السياسات الاجتماعية واتخاذ قرارات أكثر دقة وفهمًا للظواهر الاجتماعية.
ويتوقع أن تطبق قاعدة البيانات الاجتماعية مستقبلًا في سلطنة عُمان، والتي يمكن لها أن تجمع بيانات مجتمعية وتربطها في قطاعات عديدة مثل القطاع الصحي والتعليمي ونظام وزارة التنمية الاجتماعيّة. كما يمكن أن تدرس الظواهر الاجتماعية، وأن تحلل باستخدام الذكاء الاصطناعي لفرز المدخلات والاتجاهات، لكن بإشراف المختصين الاجتماعيين، حيث إن الدراسات الاجتماعيّة لا يمكن أن تنفذ كاملة بعمليّة رقميّة مؤتمتة بالكامل، فالذكاء الاصطناعي لا بد أن يتابعه الفهم البشري للمجتمع بمشاعره وميوله واتجاهاته وقضاياه، فالمشاعر لا يمكن أن تُبنى في برمجيّات الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته في زمن قريب.
وقد تعطي قاعدة البيانات الاجتماعيّة شبكة من المعلومات تسهّل البحث والاستقصاء ومتابعة خطط العلاج وغيرها، بل إنها تعطي ملمحًا عن مجتمعات محددة وظواهر اجتماعيّة منتشرة فيها، وتوجه أعين الباحثين نحوها لدراسة أسباب انتشارها في المجتمع (س) أكثر من المجتمع (ص)، ومن خلال الدراسة والبيانات المرتبطة وإنترنت الأشياء، يخلص الباحثون إلى النتائج التي تطبق ويتابعون العلاج، ويقدمون التوصيات البنّاءة ليس في الظواهر الاجتماعيّة فقط، بل حتى في سلوكيات الإجرام والسلوكيات السلبيّة التي يمكن للبيانات والقضايا المشابهة والمحفوظة في سجل البيانات أن تقارن ويعرف منها الدافع وراء السلوك السلبي أو الاتجاه. ليس هذا فحسب؛ بل إن تقنيات المستقبل يمكن أن تسهّل الخدمة الاجتماعيّة كذلك عبر معرفة بيانات العائلات ومستواهم المعيشي من تحليل الذكاء الاصطناعي لمصروفاتهم مثلًا، والتي تكون مرتبطة بحسابات المصارف، حيث يُمكن معرفة المحتاجين فعلًا من صناديق الحماية الاجتماعيّة والمعونات الخيريّة.