على مدى العقود الماضية، أصبح البلاستيك عنصرًا أساسيًا في مختلف الصناعات، بفضل وفرة مواده الأولية وانخفاض تكلفته وسهولة تصنيعه، ومن تغليف الأغذية إلى الاستخدامات الطبية، أدّى البلاستيك دورًا محوريًا في تيسير الحياة اليومية وتقديم حلول اقتصادية وعملية.
ومع ذلك، فإن هذا الانتشار الواسع لم يخلُ من تبعات بيئية وصحية مثيرة للقلق، حيث تشير الأبحاث العلمية إلى احتمالية تسرّب بعض المركبات الكيميائية المستخدمة في تصنيعه إلى الغذاء والماء؛ ما قد يؤثر على الصحة العامة، فإلى أي مدى يمكن أن تشكل هذه المواد تهديدًا، وما السبل الأمثل لمواجهتها؟
في هذا الاستطلاع، نسلّط الضوء على الأبعاد العلمية لاستخدام البلاستيك، مستندين إلى آراء الخبراء والدراسات الحديثة؛ لفهم تأثيراته وسبل الحد من مخاطره.
هل عبوة المياه التي تستخدمها آمنة؟
في كل مرة تفتح فيها زجاجة مياه معدنية، هل فكرت يومًا في العبوة التي تحملها؟ قد تبدو بلا أهمية، فهي مجرد غلاف يحفظ نقاء الماء، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا مما نظن. يشير الدكتور حيدر اللواتي، أستاذ الكيمياء بكلية العلوم، إلى أن بعض العبوات البلاستيكية ليست صالحة لتعبئة المياه، لأن الماء، بخصائصه الكيميائية، قادر على إذابة المواد الضارة من سطح العبوة بمرور الوقت، خصوصًا عند إعادة استخدامها، وكلما زاد الاستخدام، زادت المخاطر.
لكن كيف نميّز بين العبوات الآمنة والخطرة؟ يكشف اللواتي عن سر بسيط مخفي في كل عبوة بلاستيكية: رمز مثلث يحتوي على رقم، فإذا وجدت الرقم 1، فهذا يشير إلى أن العبوة مصنوعة من "Polyethylene terephthalate" (PET)، وهو من أكثر الأنواع أمانًا. أما إذا وجدت الإشارة التي تشبه المثلث وبها الرقم 6 فيجب التعامل معها بحذر، حيث إن هناك تقريرا صدر حديثا من أحد مراكز البحوث العلمية في إحدى الدول العربية يفيد بأن هذا النوع من البلاستيك المستخدم من قبل بعض الشركات يسرّب بعضا من المواد العضوية الخطرة جدا والمسببة للسرطان. بينما تشير دراسات أخرى إلى خطورة استخدام مواد بلاستيكية أخرى يرمز لها عادة بالرقم 7.
آلية التخزين السليمة
تشكّل العبوات والمغلفات البلاستيكية مصدر قلق صحيًا بسبب احتمال انتقال المواد الكيميائية منها إلى الماء والغذاء؛ ما قد يعرض الصحة العامة للخطر، ويوضح الدكتور محمد الخصيبي من قسم الغذاء والتغذية في كلية العلوم الزراعية والبحرية أن بعض المواد المضافة إلى البلاستيك، مثل البيسفينول أ (BPA) قد تؤدي إلى اضطرابات هرمونية لأنها تحاكي تأثير هرمون الإستروجين، في حين أن الفثالات المستخدمة لجعل البلاستيك مرنًا قد تتسبب في اضطرابات وظائف الكبد والكلى، فضلًا عن تأثيرها السلبي على الخصوبة وصحة الأجنة والنساء الحوامل.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة بجامعة أريزونا في عام 2008م عن احتمال تسرّب الأنتيمون إلى المياه المخزنة في عبوات PET، وهو عنصر قد يسبب مشكلات صحية مثل الإسهال والقيء، إضافةً إلى تأثيره على ضغط الدم ومستويات السكر، مع احتمالية ارتباطه بالإصابة بالسرطان؛ لذا حددت منظمة الصحة العالمية الحد الأقصى المسموح به عند 20 نانوجرامًا لكل لتر. بينما تعتمد بعض الدول مثل اليابان حدًا أكثر صرامة عند 2 نانوجرام لكل لتر.
ورغم أن الدراسة وجدت أن التسرّب ضئيل جدًا إلا أنه يزداد بصورة ملحوظة مع ارتفاع الحرارة؛ الأمر الذي يستدعي الانتباه، خصوصًا في المناطق الحارة، حيث قد تصل درجات الحرارة داخل السيارات والمخازن إلى 50 درجة مئوية؛ لذا من الضروري مراعاة ظروف تخزين العبوات قبل شرائها، والتأكد من أنها لم تتعرض لدرجات حرارة مرتفعة تفوق 30إلى 35 درجة مئوية، وإذا لم يكن بالإمكان التأكد من ذلك، فمن الأفضل مراجعة تاريخ الإنتاج والتأكد من أن عمر العبوة لا يتجاوز شهرًا واحدًا، إذ كلما كان تاريخ الإنتاج حديثًا، زادت جودة المياه المخزنة داخلها، ومن ناحية الاستخدام يُنصح بتجنب إعادة استخدام العبوات أو تخزين المشروبات الحمضية فيها.
الجدير بالذكر أن اختيار المياه المعبأة لا يقتصر على العلامة التجارية فحسب، بل يشمل أيضًا ظروف تخزينها ونقلها؛ ما يجعل الوعي بهذه التفاصيل أمرًا أساسيًا للحفاظ على الصحة العامة.
مخاطر محتملة على صحة الأجنة
يرتبط استخدام الزجاجات البلاستيكية بمخاطر صحية محتملة خصوصًا على الجنين، بسبب تسرّب مواد كيميائية ضارة مثل المركبات المسببة لاضطرابات الغدد الصماء (EDCs) والجسيمات البلاستيكية الدقيقة، ووفقًا لحديث الدكتور محمد العزري، رئيس قسم طب العائلة والصحة العامة حول ذلك، ذكر أن البلاستيك، عند تسخينه أو إعادة استخدامه، يطلق مواد تحاكي الهرمونات، الأمر الذي قد يعيق نمو الجنين ويؤثر على صحته العصبية والإنجابية.
وقد كشفت دراسات عن وجود جسيمات بلاستيكية دقيقة في الأنسجة البشرية، بما في ذلك المشيمة التي قد تتأثر وظائفها وبالتالي تؤثر على نمو الجنين؛ ما قد يزيد من مخاطر الإجهاض، والولادة المبكرة، وانخفاض الوزن عند الولادة، إضافة إلى تأثيرات طويلة المدى مثل الاضطرابات الأيضية وتأخر النم؛ لذا ينصح المختصون الحوامل بتجنّب العبوات البلاستيكية، واستخدام الزجاج أو الفولاذ المقاوم للصدأ، مع تجنّب تسخين البلاستيك والحد من استهلاك الأطعمة المعبأة لتقليل التعرض للمواد الكيميائية الضارة.
ما البدائل الممكنة؟
أشار الخصيبي في حديثه إلى أن العبوات البلاستيكية كغيرها من المنتجات آمنة عند استخدامها بالصورة الصحيحة إلا أن التحدي الأكبر يكمن في أثرها البيئي، إذ إنها لا تتحلل بسهولة ما يؤدي إلى تراكمها وإلحاق الضرر بالحياة البرية والبحرية؛ لذلك، تركز الأبحاث العلمية على إعادة تدوير البلاستيك أو تطوير بدائل أكثر استدامة، حيث يُعد الزجاج خيارًا آمنًا وصديقًا للبيئة، نظرًا لخلوه من المواد الكيميائية الضارة وإمكانية إعادة استخدامه وتدويره دون تأثير على الصحة العامة، إلا أن ارتفاع تكلفته ووزنه الثقيل يشكّلان تحديًا اقتصاديًا لمصنعي الأغذية، وهنا يأتي البلاستيك الحيوي(Bioplastics) كبديل واعد، لكونه قابلًا للتحلل الحيوي، لكن تطويره ليواكب متطلبات صناعة الغذاء ما يزال يمثل تحديًا كبيرًا.
وانطلاقًا من هذه التحديات، تحظى الأبحاث العلمية بأولوية قصوى في تطوير بدائل مُستدامة تحدّ من التأثيرات الصحية والبيئية للبلاستيك، ومع ذلك، ما تزال هذه البدائل تواجه عقبات متعددة، أبرزها ارتفاع التكلفة، ومحدودية البنية الأساسية للإنتاج وإعادة التدوير، والحاجة إلى تعزيز وعي المستهلك بأهمية تبني خيارات أكثر أمانًا واستدامة.