مع تصاعد الجهود العالمية للحد من الانبعاثات الكربونية وتحقيق أهداف الحياد المناخي، برز الهيدروجين الأخضر كأحد أبرز الحلول الواعدة في مشهد الطاقة المستدامة. فهو يتميز بقدرته على توفير طاقة نظيفة ومتعددة الاستخدامات، مما يجعله محور اهتمام صُنّاع القرار والباحثين والمستثمرين حول العالم. وفي ظل التوجه الاستراتيجي لسلطنة عمان نحو تنويع مصادر الطاقة وتعزيز الاقتصاد الأخضر، تبرز الحاجة إلى فهم عميق للهيدروجين الأخضر: كيف يُنتج؟ ما هي أنواعه؟ أين يمكن استخدامه؟ وما الذي يمكن أن يقدمه لاقتصادنا في المستقبل القريب؟
في هذا السياق، نخوض في استطلاع مع نخبة الأكاديميين المهتمين بهذا المجال في جامعة السلطان قابوس لتسليط الضوء على محاور رئيسية تمسّ الجوانب التقنية، والبيئية، والاقتصادية لهذا المورد الطاقي الجديد.
الهيدروجين الأخضر ومكانته كمصدر للطاقة
الهيدروجين الأخضر هو غاز هيدروجين يتم إنتاجه عن طريق التحليل الكهربائي للماء باستخدام كهرباء مولّدة بالكامل من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. وعلى عكس الأنواع الأخرى من الهيدروجين، كالرمادي أو الأزرق، لا تصاحب عملية إنتاجه أي انبعاثات كربونية، ما يجعله خيارًا استراتيجيًا لمكافحة التغير المناخي.
يحدثنا الدكتور راشد الحجري/ رئيس قسم هندسة النفط والكيمياء بكلية الهندسة، عن اكتساب الهيدروجين الأخضر لمكانة بارزة على الساحة العالمية في السنوات الأخيرة، حيث بدأت العديد من الدول في إدراجه ضمن استراتيجياتها الوطنية للطاقة، ويُنظر إليه كحل حيوي للانتقال نحو اقتصاد منخفض الكربون، خاصة في القطاعات التي يصعب تخفيض الانبعاثات فيها بالاعتماد على الكهرباء فقط، مثل الصناعات الثقيلة كالصلب الإسمنت، ووسائل النقل الطويل مثل السفن والطائرات. ويضيف الحجري: لا يقتصر استخدام الهيدروجين الأخضر على كونه وقودًا نظيفًا، بل يُعد أيضًا وسيلة فعالة لتخزين الطاقة؛ حيث يمكن استغلاله لتخزين فائض الكهرباء المولّدة من المصادر المتجددة خلال فترات الذروة، ثم إعادة استخدامه عند الحاجة.
الهيدروجين لا لون له... فماذا تعني الألوان؟
تُستخدم الألوان كمصطلحات رمزية لتمييز أنواع الهيدروجين بناءً على مصدر الطاقة المستخدم في إنتاجه وتأثيره البيئي. فالهيدروجين الرمادي: وهو الأكثر شيوعًا حاليًا، يُنتج من الغاز الطبيعي عبر عملية إصلاح الميثان بالبخار، ويؤدي إلى إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون حوالي 9-10 كجم من ثاني أكسيد الكربون لكل كجم من الهيدروجين.
أما الهيدروجين الأزرق: فيُنتج بنفس الطريقة، ولكن مع استخدام تقنيات احتجاز وتخزين الكربون (CCS) للتقليل من الانبعاثات. يُعد "أنظف" من الرمادي، لكن لا يزال إنتاجه مصاحبًا بانطلاق بعض الانبعاثات الكربونية تختلف حسب كفاءة تقنية احتجاز الكربون والتي قد تصل إلى 90%، ومع ذلك، فإن العديد من المشاريع الحالية لا تتجاوز فيها نسبة الاحتجاز من ٥٠٪ إلى ٦٠٪.
وإذا كنت تمتلك الطاقة النووية، فالهيدروجين الوردي يعد أفضل الخيارات بسبب إنتاجه عبر التحليل الكهربائي للماء باستخدام الكهرباء المولّدة من المفاعل النووي، وهو نادر الاستخدام لكنه ممكن تقنيًا عند توفر البنية النووية.
أما الهيدروجين الأخضر وهو موضوع استطلاعنا: فيُنتج من التحليل الكهربائي للماء باستخدام كهرباء متجددة بالكامل، لا يولد أي انبعاثات وهو الأفضل بيئيًا، لكنه لا يزال الأعلى تكلفة.
إلى جانب هذه الأنواع الشائعة، هناك تصنيفات أقل شهرة مثل الهيدروجين الأبيض (من الينابيع الجيولوجية)، والفيروزي (من تكسير الميثان الحراري دون انبعاثات)، لكنها لا تزال محدودة الاستخدام. وهناك البني/الأسود وهو أسوأ أنواع الهيدروجين لأنه يُشتق من الفحم، وبالتالي يُعد من أسوأ الخيارات بيئيًا.
يقول الدكتور حسين يونس، باحث في مركز بحوث تقنيات النانو، أن اختيار اللون لا يتعلق فقط بالبيئة، بل له تداعيات اقتصادية واستراتيجية. فالهيدروجين الأزرق، رغم كونه أقل نظافة، قد يكون خيارًا مؤقتًا لدول تعتمد على الغاز الطبيعي وتريد تقليل الانبعاثات بسرعة. أما الهيدروجين الأخضر فهو خيار طويل الأمد للدول الطامحة إلى تحقيق الحياد الكربوني. ويكمل: رغم أن الفهم الدقيق لأنواع الهيدروجين ومصادر إنتاجه يُعد خطوة أساسية، إلا أن السياسات الفعالة تتطلب استعدادًا لتحمّل الأثر المالي أو البيئي المرتبط بكل خيار، فالكثير من الدول تدرك الفرق بين الهيدروجين الرمادي والأزرق، لكنها تميل إلى اختيار الخيار الأرخص حتى وإن لم يكن الأنظف بيئيًا.
كيف يمكن أن نستخدم الهيدروجين الأخضر؟
رغم أن الهيدروجين يُستخدم منذ عقود في العديد من القطاعات، فإن دمج الهيدروجين الأخضر، المُنتج من مصادر متجددة، في هذه الاستخدامات التقليدية هو ما يمنحها بُعدًا بيئيًا حقيقيًا. ومن أبرز هذه المجالات التي يمكن للهيدروجين الأخضر أن يُحدث فيها فرقًا واضحًا:
الصناعة: في صناعات مثل الحديد والصلب، يُستخدم الهيدروجين كعامل اختزال بديل للكربون، كما يمكن استبدال الغاز الطبيعي بالهيدروجين في الأفران الصناعية عالية الحرارة.
النقل الثقيل: يُعد من الحلول الواعدة لتشغيل الشاحنات، والقطارات، والسفن، والطائرات، حيث توفر خلايا الوقود الهيدروجينية مدى أطول وزمن تعبئة أقل مقارنة بالبطاريات الكهربائية.
قطاع الطاقة: يمكن للهيدروجين الأخضر أن يُخزن الطاقة الكهربائية الزائدة المتولدة من الشمس أو الرياح، ثم يُستخدم لاحقًا لإنتاج الكهرباء عند الحاجة، مما يحسّن مرونة الشبكة الكهربائية.
المواد الكيميائية: يدخل في تصنيع الأمونيا الخضراء، التي تُستخدم في الزراعة وصناعة الأسمدة، وفي إنتاج الميثانول ووقود الطائرات الاصطناعي.
الاستخدامات السكنية: في بعض الدول، بدأت تجارب لحقن الهيدروجين في شبكات الغاز لتدفئة المنازل.
بفضل هذا التنوع في الاستخدامات، يُتوقع أن يلعب الهيدروجين الأخضر دورًا رئيسيًا في إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي، وخاصة في القطاعات التي لا يمكن تحويلها مباشرة إلى الكهرباء.
مزايا ومكتسبات استعماله
تكمن قوة الهيدروجين الأخضر في كونه وقودًا متعدد الاستخدامات وخاليًا من الانبعاثات الكربونية. إلى جانب تمتّعه بمرونة عالية تُمكّنه من العمل كناقل للطاقة بين مختلف القطاعات، مثل الكهرباء، النقل، والصناعة، ما يجعله ركيزة أساسية في تحقيق التكامل القطاعي للطاقة:
فمن الناحية البيئية، يُعد أداة فعالة لتحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ والحياد الكربوني، خاصة في القطاعات التي يصعب تقليل انبعاثاتها، مثل الصناعات الثقيلة والنقل بعيد المدى. ومن الناحية الاقتصادية، يفتح بابًا واسعًا للاستثمار والابتكار في تقنيات الإنتاج والتخزين، كما يساهم في تنويع مصادر الطاقة المحلية. كما يتميز الهيدروجين الأخضر بإمكانية تخزينه لفترات طويلة ونقله لمسافات بعيدة، سواء عبر الأنابيب أو الناقلات، على خلاف الكهرباء المتجددة التي يصعب تخزينها بكفاءة. وهذه القابلية تُتيح استخدامه كوسيلة لتحويل الطاقة المتجددة إلى سلعة قابلة للتصدير، مما يفتح آفاقًا اقتصادية جديدة للدول الغنية بالموارد المتجددة، مثل سلطنة عُمان، من خلال تصدير الهيدروجين أو مشتقاته مثل الأمونيا الخضراء.
يُعزز الهيدروجين الأخضر أمن الطاقة من خلال تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، خاصة في الدول التي تمتلك موارد متجددة وفيرة، كما أن تطوير سلاسل القيمة المرتبطة بالهيدروجين الأخضر، من الإنتاج إلى الاستخدام، يسهم في خلق وظائف جديدة وتنمية المهارات في مجالات التكنولوجيا والهندسة والطاقة.
تحديات وعوائق انتشاره
رغم الزخم العالمي الكبير، لا يزال الهيدروجين الأخضر يواجه العديد من التحديات، ما يتطلب خططًا مدروسة لتسريع انتشاره. فتبرزتكلفة الإنتاج المرتفعة نسبيًا كأحد أبرز التحديات، خاصة إذا ما قارنها بالألوان الأخرى، ويعود ذلك إلى تكلفة الكهرباء المتجددة، وانخفاض كفاءة تقنيات التحليل الكهربائي، إلى جانب ارتفاع تكاليف مكونات الأنظمة مثل المحللات وخلايا الوقود.
كما تفتقر معظم الدول إلى البنية التحتية المناسبة لنقل وتخزين وتوزيع الهيدروجين، فإنشاء خطوط أنابيب آمنة، ومحطات تعبئة، ومرافق تخزين ملائمة يمثل تحديًا ماليًا وفنيًا. وبالحديث عن التحديات الفنية فإن الهيدروجين غاز خفيف وسريع الانتشار، ويحتاج إلى ضغوط عالية أو درجات تبريد منخفضة جدًا للتخزين، ما يطرح تحديات في الأمان والتكلفة.
إلى جانب غياب الأطر التنظيمية، فلا تزال القوانين المنظمة لقطاع الهيدروجين غير مكتملة في كثير من الدول، مما يخلق حالة من عدم اليقين للمستثمرين. بالإضافة لضعف الوعي وقلة المعرفة المجتمعية بأهمية الهيدروجين واستخداماته تحدّ من تقبّله.
فرص اقتصادية وبيئية واعدة لسلطنة عمان
تُعد سلطنة عمان من أوائل دول المنطقة التي بادرت إلى رسم ملامح استراتيجية وطنية متكاملة لتطوير اقتصاد الهيدروجين الأخضر. وتتمتع السلطنة بمقومات طبيعية وجغرافية واقتصادية تجعلها موقعًا مثاليًا لإنتاج هذا المورد الحيوي.
- موقع جغرافي متميز على بحر العرب يُتيح سهولة التصدير للأسواق الآسيوية والأوروبية.
- موارد متجددة وفيرة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وخاصة في المناطق المفتوحة مثل الدقم.
- بنية تحتية صناعية وموانئ جاهزة يمكن تطويرها لخدمة مشاريع الهيدروجين.
يشير البروفيسور محمد العبري/ مدير مركز بحوث تقنيات النانو إلى الفرص الاقتصادية: يُسهم الاستثمار في الهيدروجين الأخضر في تحقيق أهداف رؤية عمان 2040 من خلال تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط والغاز، وفتح أسواق جديدة للطاقة النظيفة. كما يتيح الفرصة لتوطين الصناعات المرتبطة بالطاقة المتجددة، مثل إنتاج الأمونيا الخضراء، وخلايا الوقود، وتكنولوجيا التحليل الكهربائي، مما يعزز من القيمة المضافة داخل الاقتصاد الوطني.
ويؤكد العبري أن الفرص تتعدى إلى مستوى التوظيف والتنمية البشرية، فيوفر هذا القطاع الناشئ فرصًا واعدة لتوظيف الشباب العماني في مجالات البحث والتطوير، والهندسة، والصناعات التقنية، والتشغيل.
ومن حيث التنفيذ على أرض الواقع، فتقود شركة هيدروجين عُمان (Hydrom) جهود تطوير القطاع، من خلال تنظيم وتخصيص أراضٍ لمشاريع الهيدروجين الأخضر بالتنسيق مع وزارة الطاقة والمعادن. كما يُعد التحالف العُماني للهيدروجين، الذي يشمل 13مؤسسة رئيسة من القطاعين العام والخاص، منصة مهمة لتنسيق الجهود بين القطاعين العام والخاص والجهات الأكاديمية.